فن المقالة
عناصرها ـ أنواعها
المقدمة:
تُعد الحياة في البحر
مسرفة إسرافاً أبعد من كل خيال ، سواءً في وفرتها ، أو تنوُّعها ، أو
قِدمها ، أو غرابتها ، أو جمالها ، أو شراستها بغير تعقل ، وبما ليس له
نظير آخر في الطبيعة ، وتتراوح الكائنات البحرية من ملايين بلايين
الكائنات الميكروئية ، التي تجوب البحر في المياه الزرق ، إلى حيتان
المتجمد الجنوبي ، الزرق الذي يبلغ طول الواحد منها ثلاثين متراً ، ويزن
مائة وثلاثين طناً ، وتشتمل هذه الكائنات على أجمل الأنواع ، التي لم تجد
الطبيعة بمثلها ، كتلك الأسماك الرائعة الفضية ، وتلك الحيوانات التي
تتفتح كالزهور ، وكتلك الشعب المرجانية المتلألئة ، وكتلك الديدان التي
يبلغ طولها سبعة وعشرين متراً وكتلك الأسماك التي تتلون بأحد ثمانية ألوان
، فإذا وقفنا عند أكبر هذه الكائنات وهو الحوت ، فإنه يحتاج إلى أربعة
أطنان من السمك ، تدخل في معدته حتى يشعر بالشبع ، ويحتاج وليده إلى
ثلاثمائة كيلو من الحليب في الرضعة الواحدة .
ويتدفق من جسم الحوت في
أثناء صيده ثمانية أطنان من الدم ، وفيه خمسة وعشرون طناً من الدهن ،
وخمسون طناً من اللحم وعشرون طناً من العظام ، وتزن أعضاؤه الداخلية ثلاثة
أطنان ، ولسانه طنين ونصف ويستخرج منه ما يزيد على مائة وعشرين برميلاً من
الزيت ، وقد استطاع حوت أن يجر سفينة ثمانية ساعات ونصف ، بسرعة خمس عقد
في الساعة ، والسفينة تُعمِل محركاتها بأقصى اتجاه معاكس لسيره .
هذه
فقرات من مقالة علمية عن الكائنات البحرية ، مأخوذة من مجموعة " لايف "
العلمية ، أردت أن استهل بها هذه المقال عن فن المقالة ، لتكون تجسيداً
ومتكأً للأفكار النظرية المتعلقة بهذا الموضوع .
****
تعريف المقالة :
المقالة
كما يعرفها أدمون جونسون ، فن من فنون الأدب ، وهي قطعة إنشائية ، ذات طول
معتدل تُكتب نثراً ، وتُلِمُّ بالمظاهر الخارجية للموضوع بطريقة سهلةٍ
سريعة ، ولا تعنى إلا بالناحية التي تمسُّ الكاتب عن قرب .
والمقالة ـ
بتعريف آخر ـ قطعة من النثر معتدلة الطول ، تعالج موضوعاً ما معالجة سريعة
من وجهة نظر كاتبها ، وهي بنت الصحافة نشأت بنشأتها وازدهرت بازدهارها .
كلمة
" موضوعاً ما " في التعريف تعني أن المقالة من أكثر الفنون الأدبية
استيعاباً وشمولاً لشتى الموضوعات ، فموضوعات كالتضخم النقدي ، وأساليب
الإعلان والتخدير بالإبر ، لا يمكن أن تحملها أجنحة الشعر ، ولا حوادث
القصة ، ولاحوار المسرحية ، والمقالة وحدها تتقبل مثل هذه الموضوعات ،
وأية موضوعات أخرى وتجيد توضيحها وتحسن عرضها .
وكلمة " معالجة سريعة "
في التعريف تعني أن كاتب المقالة ، مازاد على أنه سجل تأملات ، أو تصورات
أو مشاهدات تغلب عليها العفوية والسرعة ، فلو كانت المعالجة متأنية فجمعت
الحقائق ، وفحصت وصنفت ، واعتمد على الإحصاء ، والتجربة والمتابعة ،
لعُدَّ هذا العمل بحثاً علمياً ، وليس مقالة أدبية .
فلو قرأت في مجلة
علمية ، أن طيور البلاكبول ، تطير في الخريف إلى شاطئ المحيط الأطلسي ،
ومن هناك تقوم برحلة جوية لا تصدق فوق البحار ، في اتجاه أمريكا الجنوبية
، مجتازة مسافة أربعة آلاف كيلو متر بلا توقف ، خلال ست وثمانين ساعة ،
على ارتفاع يزيد على ستة آلاف متر ، لو قرأت هذه الفقرة لعرفت أن هذه
الأسطر قد كلفت العلماء سنوات طويلة من الملاحظة ، والمتابعة ، فهذه فقرة
من بحث علمي وليس مقالة أدبية .
وكلمة من " من وجهة نظر كاتبها " تعني
أن المقالة تعبِّر عن ذات كاتبها أكثر مما تُعبِّر عن موضوعها ؛ لأن كاتب
المقالة يرى الأشياء من خلال ذاته ، وما يعمل فيها من مشاعر وانفعالات .
استمعوا معي إلى أحد الكتاب ، يتحدث عن طائرة :
" طائر صغير أحببته شهوراً طوالاً ، غرد لكآبتي فأطربها ، ناجى وحشتي فآنسها ، غنّى لقلبي فأرقصه ، ونادم وحدتي فملأها ألحاناً " .
****
المقالة فن عصري :
كُتب
على غلاف أحدى المجلات ذات الطبعات الدولية ، أكثر من مائة مليون يقرؤون
هذه المجلة ، في مائة وثمانين بلداً ، وبخمسة عشر لغة فما سر هذا الإقبال
الشديد على مطالعة المقالات المنوعة في الصحف والمجلات ، وفي كل أقطار
العالم ؟ .
في هذا العصر الذي طغت فيه المادة على القيم ، ونما العقل
على حساب القلب ، وتعقدت أنماط الحياة ، وكثرت متطلباتها ، واستهلك كسب
الرزق ، معظم الوقت ، واختُصر كل شيء ، حتى اختصرت الشهور في ساعات
والسنون في أيام ، وظهرت الحاجة ملحة إلى مطالعات سريعة خفيفة ، فتطلع
الناس إلى الصحف والمجلات ، واستهوتهم الكتيبات ، والدوريات ، وكأن الناس
أرادوا أن يختصروا البحر في قارورة ، والبستان في باقة ، وضياء الشمس في
بارقة ، وهزيم الرعد في أغرودة ، وبحثوا عن فن أدبي يدور معهم أينما داروا
، ويرافقهم حيثما ساروا ، ويكون معهم في حلِّهم وترحالهم ، وأحزانهم
وأفراحهم في لهوهم وجدِّهم ، يعبر عن نشاطهم العقلي ، وعن اضطرابهم النفسي
كذلك اختصرت الكتب في مقالات ، فجاءت بلسماً شافياً لمرض العصر ودواءً
لضيق الوقت ، فكانت المقالة من أوسع الفنون الأدبية انتشاراً ؛ لأنها
أقلها تعقيداً وأشدها وضوحاً ، وأكثرها استيعاباً ، لشتى الموضوعات
وأيسرها مرونة على الكاتب ، وأسهلها هضماً على القارئ .
****
عناصر المقالة :
المادة والأسلوب والخطة .
فالمادة
هي مجموعة الأفكار ، والاراء ، والحقائق ، والمعارف والنظريات ، والتأملات
، والتصورات ، والمشاهد ، والتجارب والأحاسيس ، والمشاعر ، والخبرات التي
تنطوي عليها المقالة ، ويجب أن تكون المادة واضحة ، لالبس فيها ولا غموض ،
وأن تكون صحيحة بعيدة عن التناقض ، بين المقدمات والنتائج ، فيها من العمق
ما يجتذب القارئ ، وفيها من التركيز ما لا يجعل من قراءتها هدراً للوقت ،
وفيها وفاء بالغرض ، بحيث لا يُصاب قارئها بخيبة أمل ، وأن يكون فيها من
الطرافة والجدة بحيث تبتعد عن الهزيل من الراي ، والشائع من المعرفة
والسوقي من الفكر ، وفيها من الإمتاع ، بحيث تكون مطالعتها ترويحاً للنفس
، وليس عبئاً عليها .
إن مهمة الكاتب ليست في إضعاف النفوس ، بل في
تحريك الرؤوس وكل كاتب لايثير في الناس رأياً ، أو فكراً ، أو مغزى يدفعهم
إلى التطور ، أوالنهوض ، أو السمو ، على أنفسهم ، ولا يحرك فيهم غير
المشاعر السطية العابثة ، ولا يقرُّ فيهم غير الاطمئنان الرخيص ، ولا يوحي
إليهم إلا بالإحساس المبتذل ، ولا يمنحهم غير الراحة الفارغة ولا يغمرهم
إلا في التسلية ، والملذات السخيفة التي لا تكوِّن فيهم شخصية ولا تثقف
فيهم ذهناً ، ولا تربي فيهم رأياً ، لهو كاتب يقضي على نمو الشعب ، وتطور
المجتمع .
الأسلوب :
وهو الصياغة اللغوية ، والأدبية لمادة المقالة
، أو هو القالب الأدبي الذي تصب فيه أفكارها ، ومع أن الكتَّاب تختلف
أساليبهم ، بحسب تنوع ثقافاتهم ، وتباين أمزجتهم ، وتعدد طرائق تفكيرهم ،
وتفاوتهم في قدراتهم التعبيرية ، وأساليبهم التصويرية ، ومع ذلك فلا بد من
حدٍّ أدنى من الخصائص الأسلوبية ، حتى يصح انتماء المقالة إلى فنون الأدب .
فلا
بد في أسلوب المقالة من الوضوح لقصد الإفهام ، والقوة لقصد التأثير ،
والجمال لقصد الإمتاع ، فالوضوح في التفكير ، يفضي إلى الوضوح في التعبير
، ومعرفة الفروق الدقيقة ، بين المترادفات ثم استعمال الكلمة ذات المعنى
الدقيق في مكانها المناسب ، سبب من أسباب وضوح التعبير ودقته (لمح ـ لاح ـ
حدَّج ـ حملق ـ شخص ـ رنا ـ استشف استشرف) ووضوح العلاقات ، وتحديدها في
التراكيب سبب في وضوح التركيب ، ودقته ، فهناك فرق شاسع بين الصياغتين
(يُسمح ببيع العلف لفلان ـ يسمح لفلان ببيع العلف ).
والإكثار من
الطباق يزيد المعنى وضوحاً ، وقديماً قالوا : (وبضدها تتميز الأشياء )
الحرُّ والقرُّ ، والجود والشحُّ ، والطيش والحلم واستخدام الصور عامة ،
والصور البيانية خاصة ، يسهم في توضيح المعاني المجردة ، مثال ذلك :
الأدب
اليوم عصاً بيد الإنسانية ، بها تسير لامرود ، تكحل به عينها وهو نور براق
، يفتح الأبصار ، وليس حلية ساكنة بديعة تزين الصدور.
****
والقوة في الأسلوب :
والقوة
في الأسلوب سبب في قوة التأثير ، فقد يسهم الأسلوب في إحداث القناعة ، لكن
قوة الأسلوب تحدث " موقفاً " وتأتي قوة الأسلوب من حيوية الأفكار ، ودقتها
، ومتانة الجمل ، وروعتها ، وكذلك تسهم في قوة الأسلوب الكلمات الموحية ،
والعبارات الغنية ، والصورة الرائعة والتقديم والتأخير ، والإيجاز
والإطناب ، والخبر والإنشاء ، والتأكيد والإسناد ، والفصل والوصل .
مثال ذلك :
إذا
أردنا أن نعيش سعداء حقاً فما علينا إلا أن نراقب القمح في نموه والأزهار
في تفتحها ، ونستنشق النسيم العليل ، ولنقرأ ولنفكر ، ولنشارك تايلر في
إحساسه ، إذ يقول : سلبني اللصوص ما سلبوا ولكنهم تركوا لي الشمس المشرقة
، والقمر المنير ، والحياة الفضية ، الأديم ، وزوجة مخلصة تسهر على مصالحي
، وتربية أطفالي ، ورفقاء يشدون أزري ، ويأخذون بيدي في كُربي ، فماذا
سلبني اللصوص ، بعد ذلك ؟ .. لا شيء ، فهاهوذا ثغري باسم وقلبي ضاحك ،
وضميري نقي طاهر .
****
الجمال في الأسلوب :
إذا كان الوضوح
من أجل الإفهام ، والقوة من أجل التأثير ، فالجمال من أجل المتعة الأدبية
الخالصة ، وحينما يملك الكاتب الذوق الأدبي المرهف والأذن الموسيقية ،
والقدرات البيانية ، يستطيع أن يتحاشى الكلمات الخشنة والجمل المتنافرة ،
والجرس الرتيب ، وحينما يوائم بين الألفاظ والمعاني ويستوحي من خياله
الصورة المعبرة ، يكون أسلوبه جميلاً .
مثال ذلك :
البرج العاجي
الخلقي هو السمو عن المطامع المادية ، والمآرب الشخصية فليس من حق مفكر
اليوم أن ينأى بفكره عن معضلات زمانه ولكن من واجبه أن ينأى بخلقه عن
مباذل عصره ، وسقطاته ، البرج العاجي عندي هو الصفاء الفكري ، والنقاء
الخلقي ، وهو الصخرة التي ينبغي أن يعيش فوقها الكاتب مرتفعاً عن بحر
الدنايا الذي يغمر أهل عصره ، لا خير عندي للمفكر الذي لا يعطي من شخصه
مثلاً لكل شيء نبيل رفيع جميل .
والعنصر الثالث من عناصر المقالة الخطة
ويسميها بعضهم الأسلوب الخفي وهي المنهج العقلي الذي تسير عليه المقالة ،
فإذا اجتمعت للكاتب أفكارٌ وآراء يريد بسطها للقراء ، وكان له من الأسلوب
ما يستطيع أن تشرق فيه معانيه ، وجب ألا يهجم على الموضوع من غير أن يهيء
الخطة التي يدفع في سبيلها موضوعه .
والخطة تتألف من مقدمة ، وعرض ،
وخاتمة ، والمقدمة هي المدخل وتمهيد لعرض آراء الكاتب ، ويجب أن تكون
أفكار المقدمة بديهية مسلماً بها ، ولا تحتاج إلى برهان ، وأن تكون شديدة
الاتصال بالموضوع وأن تكون موجزة ، ومركزة ومشرقة .
وأما العرض ، فهو
صلب الموضوع ، وهو الأصل في المقالة ، وفيه تعرض أفكار الكاتب عرضاً
صحيحاً ، وافياً متوازناً ، مترابطاً متسلسلاً ويُستحسن أن يمهد الكاتب
لكل فكرة ، ويربطها بسابقتها ، ويذكر أهميتها ويشرحها ، ويعللها ،
ويوازنها مع غيرها ، ويذكر أصلها وتطورها ويدعمها بشاهد أدبي ، أو تاريخي
، ويُفضل ان تُعرض كل فكرة رئيسة في فقرة مستقلة .
والخاتمة تلخص النتائج التي توصل إليها الكاتب في العرض ، ويجب أن تكون واضحة ، صريحة ، حازمة .
ومما يتصل بالحديث عن عناصر المقالة الحديث عن أنواعها :
فمن
حيث الموضوع هناك المقالة الاجتماعية ، والسياسية ، ومن حيث الأسلوب ،
هناك المقالة العلمية ، والأدبية ، ومن حيث الطول ، هناك المقالة المطولة
، والخاطرة ، ومن حيث اللبوس الفني ، هناك المقالة القصصية ، والتمثيلية ،
ومقالة الرحلات ، ومقالة الرسالة ، ومن حيث موقف الكاتب هناك الذاتية ،
والموضوعية ، ومن حيث طرق نقلها إلى الجمهور ، هناك المقالة المقروءة ،
والمسموعة ، والمنظورة .
****
أنواع المقالة :
المقالة العلمية :
موضوعاتها
علمية ، وأهدافها تبسيط الحقائق العلمية ، وتيسير نقلها إلى الجمهور ،
يقول قدري طوقان " الشمس أقرب نجم إلينا ، وتقدر المسافة بثلاثة وتسعين
مليوناً من الأميال ، فلو سار قطار إليها بسرعة خمسين ميلاً في الساعة
لوصلها في مائتين وعشرين سنة ، والأمواج اللاسلكية ، التي تدور حول الأرض
سبع مرات في ثانية واحدة ، هذه الأمواج لو أرسلت إلى الشمس لوصلها في
ثماني دقائق وربع ، ولو أرسلت إلى أقرب نجم إلينا بعد الشمس لوصلته في
أربع سنين ونصف " .
لعلكم لاحظتم أسلوب المقالة العملية المباشر الذي
يعتمد على الدقة في استخدام الألفاظ ، والسهولة في صوغ العبارات ، والبعد
عن التأنق والزينة ولا تلبس المقالة العلمية من الأدب إلا أرق ثوب .
المقالة الأدبية :
وهي
قطعة من الشعر المنثور ، تشف عن ذات الأديب ، وتعبر عن مشاعره ، وتنطلق مع
خياله ، وترسم ملامح شخصيته ، أسلوبها أدبي محض ، ففيها ماشئت من عواطف
جياشة ، وخيال عريض ، وصور مترفة وأسلوب رشيق ، يقول عبد العزيز البشري
متحدثاً عن سيد درويش :
" فما إن لحن سيد درويش فكان المغني شديداً إلا
قوي لحنه ، ودعم ركنه وشدَّ بالصنعة متنه ، فسمعت له مثل قعقعة النبال ،
إذا استعر القتال ، أو مثل زئير الآساد ، إذا تحفزت للصيال ، وإذا جنح
الكلام إلى اللين ، كان لحنه أرق من نسج الطيف ، وألطف من النسمة في سحرة
الصيف .
الخاطرة :
مقالة قصيرة جداً تحتل بعض الزوايا في الصحف
، والمجلات وتعتمد على أسلوب الخطف في معالجة الموضوعات ، وتتميز بالطابع
الذاتي وتشيع فيها السخرية ، ولها مذاق عذب في نفس القارئ ، وهي أشبه شيء
بالرسم الكاريكاتوري .
*****