الهزيمة والإيديولوجية المهزومة
لم يكن بوش الصغير يتصوّر أن هزيمة حزبه الجمهوري ستكون مدوية بهذا الشكل وأن نهاية مدلّله قائد البانتاغون رامسفيلد ستكون بهذه الطريقة الدراماتيكية المأساوية لاسيما وأن غباءه السياسي والقصور الذهني الذي يعاني منه قد ساهما في ترسيخ قناعته بحتمية الفوز في الإنتخابات الأمريكية وثقته بإصطفاف الشعوب الأمريكية الى جانب أطروحاته المجنونة في الحرب الإستباقية ضد الإرهاب وتحويل الشرق الأوسط الى واحة للحرية والديمقراطية ونشر قيم الخير في مواجهة قيم الشرّ إنطلاقا من مفردات القاموس المتداول لدى أتباع العقيدة المسيحية المتصهينة الجديدة .
ومن علامات الغباء والسخف السياسي عند بوش الصغير أنه أصبح يطلق الأكاذيب في كلّ الإتجاهات ثمّ يتعامل مع تلك الأكاذيب بوصفها حقائق دامغة كأكذوبة إمتلاك العراق لأسلحة الدمار الشامل وأكذوبة السيطرة على الوضع الأمني والعسكري في العراق وأكذوبة القضاء على جيوب المقاومة وغيرها من الأكاذيب التي ردّدها رموز الإدارة الأمريكية بشكل أصبحت فيه بمثابة الحقائق بل العقائد الراسخة لدى البعض منهم وبصفة خاصة دونالد رامسفيلد ذلك العجوز الخرف المتعجرف الذي أثبت في النهاية أنه مجرّد خروف جاهز للتضحية به عند أول هزيمة يتكبّدها الحزب الجمهوري وأتباع العقيدة المسيحية المتصهينة الجديدة .
ولعلّ ما تضمنه أول تصريح للنائبة عن الحزب الديمقراطي وأحد قياداته نانسي بيلوسي في خطاب إعلان الفوز في الإنتخابات النصفية للكونغرس الأمريكي يدلّ على مدى الفشل الذريع الذي إنتهت إليه إيديولوجية المحافظين الجدد في الولايات المتحدة بعد أعوام من السيطرة النظرية والفلسفية على مجمل الحركة الفكرية في أمريكا عبر مجموعة هائلة من الأدوات والوسائل الدعائية إذ تقول زعيمة الأغلبية الديمقراطية الجديدة في الكونغرس إن : (( السير الى نهاية المشوار في العراق لم يجعل بلادنا ولا المنطقة أكثر أمنا لا يمكن أن نواصل السير في هذا الطريق الكارثي لذلك علينا أن نقول سيادة الرئيس – نحن بحاجة الى السير في وجهة أخرى ...)) معبرة بذلك عن ولادة حركة مناهضة تنظر الى العالم من منطلق آخر بعيدا عن الشعارات الزائفة التي رفعها المحافظون الجدد والعقيدة الشيطانية التي روّجوا لها عبر أكثر من 200 معهد ديني لتخريج طلبة يؤمنون بأفكار الحركة التدبيرية أو الصهيونية المسيحية الجديدة ومئات المحطات التلفزيونية وأكثر من 1400 محطة إذاعية دينية وعشرات الصحف والمجلات ومثلها من المنظمات الدينية المنتشرة في كامل أرجاء الولايات المتحدة كمؤتمر القيادة الوطنية المسيحية لإسرائيل والمؤتمر الوطني المسيحي والصوت المسيحي والإتحاد الأمريكي من أجل سلامة أمريكا والإئتلاف الأمريكي من أجل القيم التقليدية التي أسهمت في كسب العديد من الأنصار للعقيدة المسيحية المتصهينة الجديدة ومن ضمنهم عدد كبير من النخبة الحاكمة بعضهم وزراء وأعضاء في الكونغرس وحكام ولايات ورجال أعمال أمثال بول وولفويتز وريتشارد بيرل ودوغلاس فايث وجون بولتن وكوندوليزا رايس ورامسفيلد وديك تشيني وغيرهم فضلا عن عدد من الرؤساء الأمريكيين مثل جيمي كارتر ورونالد ريغان وجورج بوش .
وتقوم العقيدة السياسية لهذه الشرذمة المتصهينة على جملة من الأساطير الدينية والخرافات التي ساهمت الحركة الصهيونية العالمية في ترسيخها ونشرها داخل البلدان الأكثر تقدما في العالم ونعني أمريكا وأوروبا وذلك توصلا الى تحقيق أهدافها في السيطرة على الكرة الأرضية ومواقع إتخاذ القرار في أقوى وأغنى وأكبر الدول في عالم اليوم من خلال دعم الإيمان المطلق والإعتقاد الراسخ في ضرورة الحفاظ على دولة بني صهيون وحمايتها بشتى السبل والوسائل وصولا الى الغاية الكبرى المتمثلة في ظهور السيد المسيح من جديد .
إن الفكر السياسي للمحافظين الجدد بقدر بساطة منطلقاته وأسسه النظرية والفلسفية بقدر خطورتها بالأخصّ على مستقبل الأمة العربية تحديدا ذلك أن العقيدة المسيحية المتصهينة تقوم بالأساس على فكرة النهاية القريبة للعالم من خلال العمل على تعجيل ظهور السيد المسيح على أرض فلسطين وفي وسط مجتمع يهودي وهذا ما يفسّر السعي الدؤوب والمتواصل لمختلف القادة الأمريكيين الى تشجيع الكيان الصهيوني ودعم الهجرة إليه وخلق الفتن والحروب في مختلف دول العالم ومحاولة السيطرة على المنطقة العربية تمهيدا لما يسميه المسيحيون الصهاينة الجدد بمعركة هرمجيدون النووية نسبة الى جبل مجيدو في فلسطين المحتلة وهي المعركة التي ستقع بين الكيان الصهيوني وأعدائه العرب والمسلمين والتي ستخلّف دمارا وخرابا لا يوصف وهو ما سيعجّل في ظهور السيد المسيح لتخليص أتباعه من المحرقة .
فالإيديولوجية المسيحية المتصهينة الجديدة التي تبنّاها بوش الصغير وعصابته في البيت الأسود الأمريكي هي بالأساس إيديولوجية عنصرية قوامها القوّة والتدمير والتخريب والقتل الهمجي وعدم الإعتراف بأية قيم أخلاقية إنسانية وبصفة خاصة إذا تعلق الأمر بالأمة العربية التي يشكّل وجودها في حد ذاته أكبر عائق أمام ظهور السيد المسيح حسب إعتقاد المسيحيين المتصهينين الجدد فلا غرو والحالة تلك أن يسعى بوش الصغير وعصابته الى ضرب كلّ نفس مقاوم ومناضل من أجل بقاء هذه الأمة وكان العراق هدفا مباشرا لدجالي البيت الأسود الأمريكي الذين توهموا أن إسقاط الحكم الوطني التقدمي فيه من شأنه أن يمهّد الطريق لمعركة هرمجيدون النووية كما تزعم نبوؤتهم المشؤومة .
إن الهزيمة الإنتخابية للجمهوريين هي في الحقيقة هزيمة لإيديولوجية هجينة تقوم على الخرافة والأسطورة وتستند الى مجرّد أوهام بشّر بها أقطاب الحركة الصهيونية العالمية وتعتمد في جوهرها على القوّة الغاشمة والرغبة الجامحة في إجتثاث الآخر من الوجود والنزوع المتواصل الى التسلّط والسيطرة على مقدرات وثروات ومستقبل الشعوب تحت ذريعة تحقيق الهدف الأسمى للحركة المسيحية الصهيونية الجديدة في القضاء على الأمة العربية وإخماد صوتها الى الأبد .
وعلى هذا الأساس فإن الهزيمة الإيديولوجية لقادة ومنظري البيت الأسود الأمريكي قد سبقت الهزيمة الإنتخابية لحزبهم الجمهوري وما الهزيمة الأخيرة إلاّ مجرد نتيجة حتمية للهزيمة التي تمثلها فكرة الفوضى البناءة والحرب الصليبية الجديدة ونشر قيم الخير مقابل قيم الشرّ وقد كان دونالد رامسفيلد أوّل الغيث إذ سيلحق به بالضرورة كلّ من والاه وآمن بأطروحاته وسار على دربه وسوف يتساقطون على التوالي كورق الخريف الواحد تلو الآخر لأن إيديولوجية مهزومة بذلك الشكل لن تخلّف وراءها إلاّ الهزيمة تلو الهزيمة