وتتجدد الذكرى ، ويحل علينا الشهر الكريم ، ثم لا يلبث أن يرتحل ، فهل استعددنا لقدومه ورحيله؟.. كان صحابة رسول الله إذا ما ذهب رمضان من بين أيديهم دعوا الله نصف العام أن يتقبل منهم صيامه ، وصلاته ، وصدقته ، ثم أجمعوا أمرهم بالدعاء نصف العام الآخر أن يبلغهم الله رمضان .فإذا دخل رجب دعوا بدعاء المعصوم صلى الله عليه وسلم : "اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبَلِّغنا رمضان " ، وكان صلى الله عليه وسلم يعلم أصحابه أن يقولوا "اللهم أهلَّه علينا باليمن والإيمان والسلامة والإسلام، ربي وربك الله"، وكان دأبه كذلك عند كل شهر : كان يقول عند كل هلال : "هلالُ خير ورشد، هلالُ خيرٍ ورشد، آمنت بالله الذي خلقك "ثلاث مرات" الحمد لله الذي ذهب بشهر كذا "ويذكره" وأتى بشهر كذا "ويذكره".. كلها مناجاة لله الذي خلق ، والذي يقلب الليل والنهار ، وتسبيح لله بالنظر في آياته الكبرى ( لاْ الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَهَا أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلاْ اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) يس ـ 40، (هَذَا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي مَاذَا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلاْلٍ مُبِينٍ) لقمان ـ11
وها هو رمضان قد حلّ علينا فهل استعددنا له كما كان يستعد له الصالحون ؟ الكثيرون استعدوا بالطعام ، والشراب ، والحلوى ، والسهرات التي تحلو ـ في غير طاعة بالطبع ـ ، ومنهم يريد أراد أن "يسلّي صيامه" بالاشتراك في قنوات فضائية حتى يشاهد "دراما لا تنتهي" ،واستعراضات تروّح عن القلب الحزين، ورمضان ليس كذلك فهو خير شهور العام ولله في دهرنا نفحات لا بد أن نغتنمها ، لا أن نضيعها ، فهي فرصة متاحة لمراجعة النفس التي ابتعدت عن الله ، وما أحوجنا أن ينادي مناد في هذا الشهر الكريم : " أيّتها الخلائق أبشري .. لقد اصطلح مع الله ".
فرصة لأن نعيد حسابات العام في جرد شامل للأعمال :للإحسان والإساءة ، فعيب أن نأخذ أهبتنا ، ونضع ميزانياتنا من أجل الدنيا ، وصفقاتها، ولا نجعل ذلك من أجل الآخرة حتى لا نقع فيما ذم الله فيه قوماً (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) 7 ـ الروم ، وقوله تعالى ـ (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَاللَّهُ رَءُوفٌ بِالْعِبَادِ ) آل عمران ـ 30 ،في عصر يقول فيه أحد العلماء العارفين :"نحن في عصر تزيّنت فيه الشهوات، وتنوّعت فيه الشبهات، وتزايدت المغريات، وكثرت الملهيات، حتى كادت معها أن تعمي القلوب، وتموت الأرواح، والمسلم اليوم يبحث عن لذة الروح، وخشوع القلب، ودموع العين، فلا يجد من ذلك إلا أقلّ القليل، فأين قوتُ القلوب وغذاءُ الأرواح ؟ وأين لذّة العبادة، وحلاوةُ الطاعة ؟، وأين ترطيب الألسن بالأذكار ؟ وأين الاستغفار بالأسحار ؟ ومن ثَمَّ أين صفاءُ النفوس والسرائر ؟ وأين جلاءُ القلوب والبصائر ؟ ومن بعد أين حُسْن الأقوال وصلاح الأعمال وصدق الأحوال ؟.
فرص تسنح ولا تعود إلى يوم القيامة فهل نبتدر مقدم الشهر الكريم ، ولا تشغلنا شؤون المأكل ، والمشرب ، التسلية ، والسهر حتى مطلع الفجر في سفه لا ينقطع .