أرخى المغيبُ و أوْشك أن يسدلَ السّتار على سُفوح الجبل المتشعِّبةَ أعشابُها و المنقبضةََ أزهارُها ، المشرفة على مزرعة السيد الإقطاعي صاحبِ النعمةِ و النقمة . هبّت نفحاتُ المساء الباردةِ محمّلة بقطراتِ الندى . اِخترق السّكونُ الموحش أجواءَ القريةِ ليوقفَ سمفونية الطنين و التغريد ، فسُمِعَ للأطيار رفرفةٌ و هي تقصدُ الأوكارَ لتنعم بدفءِ الصّغار ، و للشياه ثغاءٌ و هي تلـُـمّ خِرافها تحسّبا لقدوم زائر غدّار .. و هناك على رأس القمّة العلياء ، جلس الذئب القرفصاء و أطلق العنان للعواء . يجول بنظراته حول سفح قد سمُن قطيعه ، و تارة حول مزرعة تراقصتْ سنابلها و غصّتْ جوانبها بأشجار الأيك المرصوص ، فتنتصب أذناه عند سماع نباح كلاب رابضَة عند خيمة قشّ نُصبَتْ أمام بيتٍ فخم يعود للسيِّـــــــــــــــــد .
على تلك السفوح ، بقرة حَلوب تموءُ شاخصة بنظرها نحو الإسطبل حيث تربض عجلتها .. شياهٌ تنكبّ على التهام الكلإ النديّ استعداداً للعودة إلى المربض .. خراف تنعمُ بالأمن و الأمان تتبادل النطحات في سلام و اطمئنان .. طفلة شقراءٌ تنيِّف على العقد و النصف ، قد تهدّل شعرُها الذهبيّ و تراقصتْ بخصلاته النفحات ، تلفّ جسدها الممشوق بثوب رقيق .. ذات وجهٍ مستدير ذو بشرة بيضاءَ مشربة بالحمرة ، تتخللُه عينان خضراوتان غائرتان .
في انتظار الغسق تقف الشقراء مستندةً على عصاها وسط القطيع المتناثر هنا و هناك ، وقفة ينتابها الترقب و الخوف ، ليس من الذئاب اللاحمة أو الأشباح الهائمة ، بل من أقرب الناس إلى القلب .. من الوالد المتسلط الذي يبرحها ضربا في الخيمة كلما رفضت الخروج إلى المرعى لرعي الأغنام ، و من ابن السيد العازب الوسيم الذي يباغثها هناك كل حين ليتحرش بها . ثمة في الفؤاد أنينٌ مفعمٌ باليأس يدحَرُ أحلامها النرجسية المبدّدة .. حنينٌ يتشوق للسعادة المفقودة و الصّبا الغارب الذي نحت بذبلاته البؤسَ على محيّاها .. وحدةٌ تمزق أحشاءها و لن تجد غير طيفها المتلاشي لتشكو له معاناتها في مزرعةِ الأغنياء فتخاطبُه كل مساء : أعودُ للخيمة عندَ الغسق فأجدها عتمة تفزعني و عصاً بين أضلاعي تألمني . و أقودُ قطيع السيد عند مطلع الفجر نحو المراعي فأجدها ميدانا لذئب يستغل وحدتي و معاناتي غير آبهٍ لدمعاتي .. يا له من سوء حظّ ألاقيه عند مستهلِّ أيّامي ! فراقُ الأمِّ التي احتضنتْ روحَها السماء .. جهالة الوالد التي يُدمي مخبطها أضلاعي كل صبيحة و مساء .. تحرش ابن السيدِ بي كلما غاب الوالد عن الخباء . طفولتي بين مطرقة و سِنداب .. قد أرفض الرّعي فأنال من الوالد أشدّ العقاب ، و قد يتقاتل الوالد و ابن السيد لو برّرت رفضي و بُحتُ بتحرّشه بي ، فيلحقنا - أنا و أبي - من وراءِ ذلك الطرد و التشرد . كنت أخال تحرشه دعابة لا تلبث أن تمرَّ مرور سحابةِ صيف عابرة ، لكنه تحوَّل منذ صبيحة اليوم من كائن بشري إلى ذئب همجيّ .. همجيته لن تفارق الذهن أبدا ، و شبحه لا زال يرعبني و هو يهاجمني في المرعى .. يُقبِّل شفتاي لأول مرة عنوةً و بالقوة .. و أنا عاجزة عن دحره أذرف الدّمعات .. أتجمَّع حول ذاتي كحمل صغير أفزعته الذئاب .. متضرعة إلى الله أن لا يطمحَ في أمر يتعدى التقبيل .
أيّ سيد هذا و أي والد ذاك ؟ أيحسب هذان أنفسهما آدميين ينتميان لآدم و حواء ؟ أيجد الجراح أثراً لقلوبهما لو شرَّحهما من أجل استأصال داء ؟ و أيّ داءٍ ذاك أخبثُ من الذي يُعانيان به و هما لا يشعران ؟ هما ليسا بحاجة إلى جراح يستأصل الورمَ من الأجساد و يفشل في تحدِّي القبْح من الفؤاد .. بل بحاجة إلى ضمير يذرف الدمعة من أجل بريئة تعاني الويلَ و السهاد ، و تقرر منذ اليومَ التضحيةَ و العِناد .
بعد طلوع فجر يوم الغد ، يخرج ابن السيد كعادته كل يوم لممارسة الرياضة . يتزامن خروجه مع صراع عنيفٍ قائم بين الشقراء و والدها .. يقف أمام الخيمة مستنداً على سيارته الرباعية الدفع ، ليُعاين الفتاةَ فريسة بين مخالب أبيها يُذيقها أصنافَ العذاب . كريشةٍ تعبث بها ريحُ الفجر النفوح اللاسعة ، يهزها - أبوها - من كتفيها النحيلتين ليلقي بها ثانية على البسيطة ساخطا مزمجراً . أيقنتْ حينها أنها تتدحرج بين يديه نحو موتٍ محقق ، قبل أن يسألها من جديدٍ عن عنادها المفاجئ ، و قد تطاير رذاذ بصاقه ليلتصق بشاربه الشائك الكث . تُهمهمُ الفتاة بصوتٍ مُبهمٍ يخنقه البكاء .. تغوص همهمتها في ملوحة العَبراتِ اللزجة .. تمسحُ بطرف كمِّها لعاباً يمتزج بالدّماء .. تحدِّق بعينيها الدامعتين إلى ابن السيد تارة ، و أخرى إلى نظرات أبيها الغاضبة الشرسَة ، لعلها تجد بين ومضاتها ذرة عطفٍ تمكنها منْ جمع شتاتِ نفسها و من البوح بما يخالجها . لكن شبحَ التشرّد يداهمها من جديدٍ لتلجأ إلى الصمتِ و الاستسلامِ مرة أخرى ، و ليثيرَ الغضبَ في قلب الوالد أكثر و أكثر.
وهو يهمّ لمعاقبتها بقسوة أكثرَ من ذي قبل ، يقترب ابن السيد ليتدخل بنبرة لم يعهداها في السابق : كفاك عنفاً و إساءة أيها الرجل ! ابنتك كانت و لا زالت دمية في قبضة العواصف تتقاذفها كيف تشاء ، و قلباً نهشه العنف من كلّ جانب ، أنا ، أنت ، و الظروف القاسيّة .. ابنتك أعلنتِ العنادَ فقط لتقي نفسها من تحرشاتي الدّنيئة .. تحملتِ العقابَ فقط لتجنبني و إيّاك حرباً لا يحمد عقباها .. فمعذرة إن أسأتُ إليكما بتصرفي الوضيع .. حقا أحببت ابنتك منذ النظرة الأولى ، لكني ظننتها ساذجة سهلة المنال ، بل لم أكن أتوقع أنها تحملُ بين جنبيها قلبا يهفو إلى التضحية من أجل شرفها و سمعة أبيها .. حقيقة أكتشفها منذ اللحظة فقط ، و على إثرها أطلب منك يديها الكريمتين لتكون شريكة حياتي على سنة الله و رسوله .
حينها يرفع الوالد ذراعيه و يطوق ابنته نادما على فعلته .. يضحكُ ملء شدقيه ، و تتلفت الشقراء حولها في حيرة .. تتساءل بعذوبة : أتحصل مثل هذه السعادة . في موطِن الذئـــــــــــــاب ..؟ و هي تخطو خطواتها نحو مربض القطيع ، تفوح منها ابتسامة فلاحيّة خجولة .. لأول مرة تشعر بأن ليلها سينجلي بإشراقة شمسِ صبح جديد ، و بأن حظها الذي سينتشلها و أباها من مستنقع الفقر الآسن ، لم يعد يفصلها عنه سوى وفاء بعهد .
و تبقى حقوق الطفل و عدم تعرضه للإساءة و العنف شعارات طنانة تتغنى بها الأنظمة و الإذاعات .. و طعم تُنشأ من وراءه الجمعيات الحقوقية التي ملأتْ مكاتبها الدور و العمارات ، لا لشيء ، إلاّ رغبة في مقاصد مادية و سياسية .. و يبقى القلمُ و القرطاسُ وحدهما فقط على الوفاء ، يصارعان كلّ آفةٍ خطيرة في حلبةٍ يصفق لها الجهلُ و التعصب و القمع باستهزاء ....