المميز المشرفون
عدد نقاط م.ر : 0 عدد الرسائل : 44 الدولة : السٌّمعَة : 10 نقاط : 124 تاريخ التسجيل : 21/07/2009
عدد دعوة الاعضاء مجموع عدد الاعضاء: 0
| موضوع: سلسلة فن المحاكمة ( 05 مقالات قانونية ) الخميس يوليو 30, 2009 4:32 pm | |
| المقال رقم : 03 يتبع للمقال رقم 02 فن المحاكمة عرضنا فيما سبق لما تطرق إليه مؤلف كتاب فن المحاكمة, غي توييه Guy Thuillier , قاضي ومدير دراسات في المدرسة العليا للدراسات التطبيقية, في المقدمة, وتعريفه لمعني المحاكمة في الفصل الأول, وللأسس في الفصل الثاني. ونعرض في السطور القادمة للفصل الثالث الذي أعطاه عنوانا, اتخذ صيغة سؤال: كيف نحاكم؟
يذهب في إجابته على السؤال المذكور إلى القول إن عملية المحاكمة غامضة إلى درجة كبيرة, فإذا ما تُركت جانبا قواعد الإجراءات, وقواعد الشكل, والطقوس الخاصة بكل محكمة, فالقليل من الأضواء الخافتة تسلط أحيانا عليها: و ما يهم معرفته هنا هو الآلية الداخلية المطلوب فهمها. ويرى, ولكن بحذر, ضرورة تحليل حياة القضاة , والتي هي متنوعة جدا. ومع ذلك يذهب لوضع رسم تخطيطي بهذا الصدد:
ـ إذا أخذنا, كما يقول, قضية معقدة قليلا في محكمة الاستئناف, يمكننا, لنستطيع إصدار قرار فيها, التمييز بين مراحل متعددة:
المرحلة الأولى:
أخذ ملف القضية والاعتكاف لدراسته مرات عديدة. وذلك في محاولة فهمه من الداخل. وفهم منطقه الخاص, فهم المهم وصولا إلى الأكثر أهمية فيه. استيعابه والسيطرة عليه. (يقال يستحوذ على ملفه مستوعبا إياه). أو انه (مستحوذ عليه من قبل الملف). ولكن الملف غالبا ما يقاوم, و يمتنع عن كشف خفاياه, للوصول لأعماقه ومعرفته كاملا. رغم فطنة القاضي و حدسه.
المرحلة الثانية:
الشروع في محاولة فهم الملف. فيقوم القاضي بجمع كل العناصر. جمع الحجج والوقائع. ما هو ظاهر, وما هو مخفي من الأشياء, أو محرف, أو مزور. وصولا إلى التخمين, والتساؤل حول نوايا الأطراف, ومدى مقدرتهم على الإخفاء, على الكذب. والنفاذ إلى المناطق المظلمة فيه, ووضع اليد على ثغراته ونواقصه. وهذا ما يقوده لطرح العديد من الأسئلة, وترقيم الصعوبات, وترتيبها حسب نظام التدرج في الأولويات, ودرجات الأهمية. وفحص الاحتمالات, وإحصاء الأخطاء المحتملة التي يمكن ان يكون قد ارتكبها قاضي الدرجة الأولى.
المرحلة الثالثة:
الاقتراب شيئا فشيئا في التعامل مع الملف, ووضع الأسئلة الجيدة وتكوين رأي, وتقديم حل أو حلين ممكنين. وتعتبر هذه المرحلة شاقة وتتطلب وقتا طويلا.
المرحلة الرابعة:
يضع القاضي فيها موضع الشك كل ما يعتقد انه أصبح معلوما لديه, ويمتحن سدادة وسلامة آرائه, ويفكك المجموع, وينتقد الحلول المتوصل إليها أو المحتملة. في هذه المرحلة من الشك النقدي يطرح الأسئلة المتعددة ومنها:
ـ هل هذا الذي أعتقده على جانب من القيمة؟
ـ هل تمكنت من الإطلاع على كل شيء؟ وأحصيت كل شيء؟
ـ هل حلقات السلسلة مكتملة ؟
ـ ما لذي يمكن أن يكون قد تم عمدا إخفاؤه عني؟
ـ هل علي أن أطلب عناصر أخرى؟
ـ هل استنتاجاتي جزئية وغير مكتملة ؟
ـ ما لذي يمكن أن يعارض اطروحاتي؟ ما الذي سيطرحه علي زملائي القضاة ؟
ـ هل الحل الذي أقدمه غير عادل؟ مقلق ؟ تعسفي ؟
ـ ما النتائج التي ستترتب عليه؟ ما النتائج التي قد تترتب على الحل الآخر البديل ؟
لا شك, يضيف المؤلف, أن القاضي يدرك أهمية وضرورة الأدلة المضادة. و انه يعلم بان كل شيء ممكن حدوثه. ويقوم بالمقارنة و الموازنة. فهذه المرحلة غير سهلة. و فيها إنضاج القرار ببطء وهدوء.
المرحلة الخامسة:
يجري العمل فيها على صياغة القرار المتخذ. بناء موجباته منطوقة. وتُراعي الجودة في الصياغة, والتماسك في البناء, والوضوح في المعاني, بمنطق خاص وكلمات موزونة بدقة.
2ـ وهنا يبدو التعسف واضحا في ترتيب تسلسل المراحل: لأنها مراحل متداخلة ومترابطة. فالمرحلة الأولى المتعلقة بفهم الملف تتداخل أحيانا بالمرحلة الثالثة التي هي مرحلة الشعور المسبق. والمرحلة الثانية التي هم الفهم تختلط بالمرحلة الرابعة, مرحلة الشك..
ومع ذلك لا ينعدم وجود خط رئيسي يسمح بالتقدم السريع في هذا المجال. كما يجب التنويه إلى أن نتائج إجراءات التحقيق قد تأتي مغايرة كليا لما يراه . وعليه يجب الاحتياط والفهم الجيد للعوامل الستة التالية المشوشة التي قد تعقد طريقة المحاكمة:
العامل الأول:
الحدس. القاضي الذي لا تعوزه البصيرة, يحذر من الرؤية المغرقة في منطق الأشياء. فهو يرى في الملف ما وراء المظاهر. ويستطيع الولوج إلى داخل مكوناته, يحس بما يتوجب عليه عمله. فالحدس يلعب دورا أساسيا, ولكن من غير المعروف كيف للحدس توجيه إرادة القاضي. كيف يمكنه أن يقوده إلى طريق محدد واضح. كيف له أن يجبره إلى اتخاذ القرارات الجيدة. الحدس يسمح في تسريع عملية المحاكمة: ولكن الجانب الحدسي, كما ينبه, يختلف في درجته ونوعيته اختلافا كبيرا من قاض لأخر.
العامل الثاني:
توقع النتائج. القاضي الحصيف لا يمكنه أن يكون غير مبال بالنتائج التي قد تترتب على قراراته. فهو ملزم بتوقع ما يمكن أن يحدث بعد صدور الحكم ( وهذا مصدر قلق وأرق له, وعليه توقع النتائج المحتملة).
العامل الثالث:
الأحكام المسبقة. وهذه مستعصية عن الاستبعاد كليا: فلا يمكن للقاضي التجرد كاملا من أحكامه المسبقة, بما فيها القادم من ضغوط الأشياء المعروفة, ومن تجاربه الخاصة, ويمكن أن تكون هذه الأحكام من وحي النظام القانوني الذي يدافع عنه, والمصالح المحتملة للجسم الاجتماعي.
العامل الرابع:
التصور. الذي يقود للاجتهاد في بعض القضايا الحساسة. ويمكن أن يتضمن ذلك الخلق, أو الإنشاء, والابتكار. ويستطيع ـ حسب مهارته, وشفافيته, و وقدرته على الترميم ـ تحريك وتطوير بعض المبادئ العامة. وقد تعترضه أحيانا ظروف سياسية ,أو اجتماعية, مواتية لتمرير أطروحته. ويثبت بذلك تميزه, ويبحث عن فسحة من الحرية, ويعوض بذلك الفقر أو النقص الذي لم يكمله المشرع. ولكن ماذا يعني «الإنشاء création بالنسبة للقاضي؟ أليس هذا في بعض الأحيان يحمل خطرا, ومنازع فيه؟ . الإنشاءات الحكمية (المتعلقة بالأحكام والقرارات) يمكن أن تثير الحذر. وهي من طبيعة تقود للفوضى واضطراب النظام.
العامل الخامس:
اليقينية. الفقه. بعض القضاة لا يبحثون إلا لبناء مجموع فقهي, بناء نظريات, وصناعة أنظمة ملائمة للقضايا, محل النظر, التي يعرفونها. إعجابهم الكبير بالقواعد القانونية يجعلهم يستهينون غالبا بأبعاد الملف وأعماقه. فلا يضعون مطلقا معارفهم موضع الشك. ولا يتابعون باهتمام كبير إلا هدفا مجردا. وعليه فان هذا النوع من القضاة يتزايد عددهم, وتُحاكى طرقهم في المحاكمة, وطرق استدلالهم الخاصة مما تؤثر في القضاة الجدد.
العامل السادس :
يتحدث المؤلف هنا عن الخطوط غير المرئية. القاضي ليس شخصا مجردا, فقد سبق تكوينه في المدرسة الوطنية للقضاء, حسب أعراف, وله سابقيه وسيكون له تابعون. وهو راسخ في الجسم القضائي. وروح هذا الجسم تلعب دورا في طريقة الحكم, فهناك طرق خاصة في الاستنتاج, والاعتماد على قيم معينة يجب الدفاع عنها, وتقارير, ومناقشة تقارير الآخرين, وإبداء الآراء ( فالقاضي لا يحاكم منفردا), هذه الخيوط غير المرئية التي هي في قلب المهنة, صعب استيعابها, ويصعب الوعي بها , ولكنها تبين الكيفية التي تجعله يختار طريقه الخاص به, بما في ذلك تحريره الأحكام والقرارات.
الواقع أن أصول المحاكمة متشابكة: فهي, كما يراها, كيمياء معقدة, فنحن لسنا بصدد نظام حدسي. ولا بصدد نظام منطق قانوني صرف ( كما يحاول أن يوحي به بعض المعلقين). نحن هنا بصدد نظام مختلط, ضبابي, غير محدد, ولا يمكن إيجاد الطريق فيه إلا بمشقة.
وللحقيقة, انه لا يوجد أمامه إلا بعض نقاط الدعم: لان لا يمكن للقاضي, من حيث المبدأ, الاستناد على سابقيه في الجسم القضائي. ولا على النظريات في مدرسة التكوين المهني (يطلق عليه المؤلف البيت maison كما جرت العادة, أي مكان التكوين). أو على خبرة الحياة ( معرفة الرجال, وأهوائهم هو الشيء القيم للمحاكمة في العمق ـ ولكن هذا لا يمكن امتلاكه إلا في المراحل المتأخرة من حياة القاضي). ويجد القاضي نفسه غالبا مرهقا لمعرفة كيف يمكنه الوصول لإصدار أحكام وقرارات جيدة, تجلب الرضاء له وللآخرين. وأخيرا يستنتج المؤلف, أن ليس من السهل على القاضي أن يصبح لاعبا جيدا في مثل هذه المهنة.
ملاحظة: دعتنا ضرورة التوضيح, في موضوع معقد, إلى التوسع في التصرف في عرض أفكار المؤلف, ولكن مع الحفاظ على جوهرها وتسلسلها).
يتبع ..
المصدر/مدونة الكاتب
مع تحيات الأستاذ/ سنوسي علي المحضر القضائي | |
|