عندما أصبح "بـولنياك" رئيس وزراء فرنسا في 18 جوان 1829 قررت فرنسا توجيه حملة عسكـرية ضد الجزائر، فراحت تفتعل الأسباب لتبرير حملتها، واتخذت من حادثة المروحة التي اعتبرتها إهانة لشرفها سببا مباشر في ذلك كما تـذرعت بأسباب أخرى نذكر منها عدم معاقبة الـداي حسين لأهـالي عنابة، والذين قاموا بمهاجمة السفينة الفرنسية "لابـروفاس" يوم 03 أوت 1829بالإضافة إلى إلغاء الحكومة الجزائرية للامتيازات الفرنسية في سواحل بلادها وإصدارها للقرار عام 1826 والذي منحت بموجبه الحرية لجميع الدول الأوربية لصيد المرجان، كما ادعت أنها تريد وضع حد لأعمال القرصنة البحرية التي كان يقوم بها الجزائريون ضد السفن الأجنبية في البحر المتوسط.
والملاحظ أن الأسباب التي استغلتها الحكومة الفرنسية للقيام بحملتها ضد الجزائر، لم تلمس جوهر الحقيقة، فلو أخذنا حادثة المروحة كسبب مباشر في توجيه الحملة فإنه قد مرت أكثر من ثلاث سنوات بينها وبين 05 جويلية الذي هو تاريخ الاحتلال، كما ذكر المستشار النمساوي "ميترنيخ-methernich" أن تحرك فرنسا بمثل هذا الجيش الجرار وأن تصرف هذا المبلغ (150 مليون فرنك) ..... من أجل ضربة مروحة ؟.
أما الأسباب الحقيقية للحملة فمنها ما هو سياسي ومنها ما هو عسكري ومنها ما هو ديني.
أ-الدوافع السياسيــة:
لاشك أن دخول الجزائر تحت مضلة الحكم التركي كان بمثابة إنقاذ لهذا البلد من الاحتلال الإسباني وقد تمتعت البلاد في ظل الحكم التركي بمكانة مرموقة وهيبة دولية خلال تلك الفترة الطويلة، لكن بنهاية القرن السادس عشر بدأت البلاد تأخذ منعرجا خطيرا فتفاقمت فيها الصراعات على الحكم وكثرت الاضطرابات والمؤامرات.
ولقد حرصت فرنسا على إقامة علاقات دبلوماسية مع الجزائر، وهذا نابع من رغبتها في استغلال خيرات البلاد الاقتصادية واحتكار استثمار المرجان الذي كان يزخر به ساحل القالة وعنابة، وقد عقدت الجزائر مع فرنسا في الفترة الممتدة بين (1619-1830م) حوالي 47 معاهدة تخدم في أكثرها مصالح فرنسا، كما أن الملك "شارل العاشر" كان يرغب في خلق تعاون وثيق مع روسيا في حوض البحر المتوسط حتى يتغلب على الهيمنة البريطانية والتمركز في ميناء الجزائر، كما أن شارل العاشر يرغب في امتصاص غضب الشعب خاصة بعد خلق حرية الصحافة وشغل الشعب بحرب خارجية، وكسب رضاه بنوع من النصر الزائف، وقد اعترف الملك شارل العاشر بهذا صراحة حين قال « ...إنه لشيء جميل أن نتقدم إلى البرلمان ومفاتيح الجزائر بيدنا»، كما أن فرنسا أرادت تحطيم القيود التي فرضها مؤتمر فينا 1815م والذي قرر أن لا تقوم فرنسا بإجراء تغييرات إقليمية دون موافقة الدول الكبرى .
ب-الدوافع العسكرية:
إن انهزام الجيش الفرنسي في أوربا وفشله في إحتلال مصر والانسحاب منها تحت ضربات القوات الإنجليزية في 1801، دفع بنابليون بونابرت إلى أن يبعث بأحد ضباطه إلى الجزائر في الفترة الممتدة من 24-27 جويلية 1808 ليضع له خطة عسكرية تسمح له بإقامة محميات فرنسية في شمال إفريقيا تمتد من المغرب الأقصى إلى مصر، وفي 1809 قام هذا الضابط "بوتان" بتسليم مخطط لإحتلال الجزائر عن طريق البر، إلا أن "نبليون" أضطر إلى تأخير هذه الحملة خاصة بعد هزيمة "وترلو" 1815، ولما شعر ملك فرنسا أنه من الأفضل الاعتماد على سياسة التوسع في أفريقيا من أجل إشغال الجيش بمسائل حيوية تتمثل في إحتلال الجزائر وتحقيق انتصار باهر وبالتالي التخلص من إمكانية قيام الجيش بانقلاب ضده.
ج - الدوافع الاقتصادية:
لقد كان حرص فرنسا على إحتلال الجزائر اعتقادا منها أنها ستحصل على غنيمة تقدر بـ150 مليون فرنك توجد في خزينة الداي، كما كانت تسعى إلى إقامة علاقات دبلوماسية مع الجزائر من أجل استغلال خيرات البلاد الاقتصادية، وقد تعاون الرأسماليون الفرنسيون الذين كانت تدفعهم مصالحهم المالية إلى التوسع والعثور على أسواق جديدة ومواد خام ضرورية لهم، مع رجال الجيش الذين كانوا يبحثون عن المغامرة وملاء جيوبهم بواسطة السلب والنهب حتى يرتقوا إلى مصف الشخصيات الراقية في المجتمع الفرنسي كما أن مجموعة من التجار كانت متحمسة لفكرة إحتلال الجزائر والاستيلاء على الأراضي الخصبة بها وزراعة العنب والبحث عن المناجم والذهب.
د- الدافع الديني:
في الحقيقة أن الصراع الذي كان قائما بين الدول المسيحية الأوروبية والدولة العثمانية قد انعكس على الجزائر، لأن الأسطول الجزائري القوي يعتبر في نظر الدول المسيحية امتداد للأسطول العثماني، الذي كان يسيطر على منطقة الشرق العربي، ومما لاشك فيه أن التعاون الوثيق بين الدولة العثمانية الإسلامية والدولة الجزائرية المؤيدة لها هدفه الدفاع عن حوزة الإسلام، مما جعل الدول المسيحية تتعاون فيما بينها لضرب المسلمين في الجزائر وإسطنبول، بل وتتنافس فيما بينها في شرف القضاء على الأسطول الجزائري وكانت فرنسا تشعر بأنها الحامية للبابوية والمدافعة عن مصالحها حيث أعلن شارل العاشر عن هذا الاتجاه في عام 1830 ( أن التعويض الحاسم الذي أريد الحصول عليه هو أن أثر لشرف فرنسا أن يتحول بمعونة الله لصالح فرنسا).
وقد ذكر وزير الحربية الفرنسية "كليرمون" في تقريره الذي رفعه إلى مجلس الوزراء الفرنسي في 14 أكتوبر 1827 « ربما يكون من حضنا أن نمدنهم مع الوقت وذلك بجعلهم مسيحيين » .
ومن الخطأ اعتبار أن سببا معينا في ذاته ولوحده هو الدافع لفرنسا لإحتلال الجزائر، بل إن هذه الأسباب القريبة منها والبعيدة مندمجة هي التي دفعت فرنسا إلى إحتلال الجزائر، تحقيقا لتلك الأطماع والمكاسب
وكما أشرنا سابقا أن الحملة الفرنسية انطلقت من ميناء طولون الحربي في 25 ماي 1830 بقيادة وزير الحربية "بورمون" متجهة نحو الجزائر وهي تتألف من 37 ألف جندي 1700 بحار و103 سفينة حربية بالإضافة إلى السفن التجارية المستأجرة لحمل الجنود والمؤن وقد وصلة الحملة في 14 جوان 1830 ونزلت بشبه جزيرة سيدي فرج غربي العاصمة على بعد 28 كلم وذلك وفق خطة "بوتان" والتي وضعها منذ عهد نابليون، وفي هذا يقول الزهار (وفي يوم الحادي والعشرين من ذي الحجة 1245هـ ظهرت عمارة الفرنسيين، ويوم الأحد نزل عسكرهم بسيدي فرج).
بالنسبة للقيادة الجزائرية فقد اعتمدت في البداية خطة استهدفت منع نزول العدو بسيدي فرج، وبعد أن فشلت في ذلك بقيت تنتظر عدة أيام لاستكمال تجمع القوات عند هضبة اسطوالي، فخطة ابراهيم آغا يوم 18 جوان ترتكز على الهجوم على جناحي العدو والذي تمثل جبهته شكل هلال وسطه شبه الجزيرة بغرض تغليفه وقطع اتصاله بالبحر، ومركز الهجوم الرئيسي تقوم به ميمنة الجيش الجزائري بقيادة ابراهيم آغا نفسه، وفي صبيحة 19 جوان انطلقت القوات الجزائرية من موقعها عند معسكر اسطوالي مستغلة في تلك كثافة ضباب الصباح، مما منع مدفعية الأسطول من التدخل، سارت الخطة في مرحلتها الأولى سيرا حسننا، لكن عند حدود العاشرة بدأ الموقف يتغير، حيث أدركت القيادة الفرنسية الخطة وقامت بمناورة على الجناحين، فحاصرة الجيش الجزائري الذي تحول إلى غوغاء وحشود مذعورة ناجية بنفسها .
وهو ما عبر عنه حمدان بن عثمان خوجة قائلا: « ولما تحرك انهزام الآغا وجيشه ولم يعرف أحد إلى أي مكان تم الانسحاب »، وبالرغم من الصدق ونية الجهاد التي أبداها الجزائريون في الدفاع عن بلادهم فإن الجيش الفرنسي تمكن من الانتصار عليهم وكسب الرهان، وبذلك تراجع الجزائريون إلى قلعة السلطان الواقعة في مرتفعات مدينة الجزائر، الأمر الذي ساعد الفرنسيين على نصب وتسليط مدافعهم صوب قلعة الإمبراطور وبدؤا بقصفها ومات خلق كثير من الفريقين وخرج آخرون أحياء من القلعة من بينهم الخزناجي، وقبل مغادرته للقلعة وعد بمائة سلطاني ذهبا لمن يشعل النار في خزانة البارود وكان أن وجد من نفذ هذه العملية فانفجرت خزانة البارود، وقد كان يعتقد أن تفجير القلعة سيجعل الحجارة تسقط كلها فوق الجيش الفرنسي فتقضي عليه أو على جزء منه على الأقل، لكن الحجارة سقطة على المدينة وألحقت أذًا كبيرا بها دون أن يصيب الجيش الفرنسي أذًا، كما أن ذلك الانفجار الكبير أثار الخوف والرعب بين السكان مما أدى إلى انهيار معنوياتهم .
وبعد أن تحطمت القلعة دخل إليها الفرنسيون، ونصبوا مدافعهم من ناحية البحر، وفي هذه الأثناء جمع حسن باشا سائر الأمناء وأعيان البلاد ورجال القانون وعرض عليهم الوضع الخطير الذي كانت عليه المدينة وطلب آرائهم إلى وسيلة تحقق السلامة، وقد كان كلام الداي غامضا فإن رد أعيان المدينة كان غامضا وذلك لخوفهم من أن يكون الداي يحس تأثير المنشورات التي وزعها "بورمون" في الجزائر والتي دعا فيها الشعب للاستسلام بدعوة أنه جاء محررا لهم.
إن إشارة الداي بقبول الاستسلام للفرنسيين وتسليم المدينة حسب نصوص معاهدة يمضيها معهم تدل دلالة واضحة على اقتناعه أنه غير قادر على مقاومة الفرنسيين وأن مسألة سقوط حكومته مسألة وقت فقط، وعندئذ أرسل الداي حسين يوم 04 جويلية 1830م وفدا للتفاوض مع "بورمون" وتوصل الطرفان في النهاية إلى إبرام معاهدة يوم 05 جويلية 1830م نصت على فتح أبواب مدينة الجزائر أمام الجيش الفرنسي، وعلى إثر ذلك سلم الداي مفاتيح مدينة الجزائر إلى القائد الفرنسي "بورمون"، وتجمعن قوات الإنكشارية في الثكنات وسلمت الثكنات للجيش الفرنسي .
وقد التزم الداي بتنفيذ جميع بنود المعاهدة التي أبرمها مع الفرنسيين، بينما السلطة الفرنسية لم تلتزم بتنفيذها، حيث أنه بمجرد دخول الجيش الفرنسي للجزائر قام بأعمال وحشية، ونهبوا كل السلع التي وجدوها بالميناء والتي تقد بمبالغ هائلة .
أما بالنسبة للأسباب التي أدت إلى الهزيمة فهي متعددة، يمكن حصرها فيما يلي:
-استخدام الجزائريين للأسلحة العتيقة عكس الفرنسيين فقد استخدموا أسلحة متطورة وخططا حربية عصرية لذلك كانت جولات الصراع غير متكافئة .
-إهمال الداي حسين وسوء تقديره للأمور، فعندما قدم إليه الرايس أحمد بالجي وكيل ضريح سيدي فرج وأخبره بظهور بعض العمارة الفرنسية، قال له إن ذلك سحاب في الأفق .
-عزل يحي آغا قائد الجيش منذ 12 سنة، كان رجلا ذكيا ومخلصا وصاحب خبرة وتم إعدامه فيما بعد، بعد مؤامرة حيكت ضده، وتعين ابراهيم آغا خلفا له والذي لم يكن يوما قائدا ممتازا ولم يكن يعرف الكثير عن التكتيك العسكري، وقد ارتكب أخطاء كثيرة منها اعتماده على رجال لا يعرفون شيئا عن القتال، كما أنه لم يمد العدد القليل من القبائل الذين وفدوا لمساعدتهم بالأسلحة مما جعلهم يعودون من حيث أتوا، كما أنه لم يأخذ بعين الاعتبار الخطة التي اقترحها عليه الحاج أحمد باي قسنطينة، ولم يسلم الأموال التي استلمها من الداي للمحاربين لرفع معنوياتهم .
-الفارق العددي الكبير بين الجيش النظامي الذي لم يتجاوز 600 جندي تركي ولم يكن بسيدي فرج سوى 12 مدفع و 300 فارس، مقابل 37000 جندي فرنسي و 700 بحار و 103 سفينة حربية بالإضافة إلى السفن المستأجرة .
-ثقة الداي حسين الكبيرة في الخزناجي، وإرساله للدفاع عن قلعة مولاي حسن (حصن الإمبراطور)، والذي كـان يصبو إلـى تأييد الانكشارية للقيام بانقلاب سيتولى به الحكم ويعزل الداي .
كما أن الداي وجماعته لم يضعوا خطة مدروسة لمواجهة الفرنسيين، ولم توجد قيادة تستعين بآراء الخبراء ويتفق أعضاؤها على خطة دقيقة، كما أن المجلس الذي انعقد لتحديد خطة معينة للدفاع عن البلاد، لم يتمكن من وضع إستراتيجية دقيقة لمواجهة الجيش الفرنسي، بل وانتهى المجلس بآراء متضاربة .
وقد تمخضت عن الحملة الفرنسية وسقوط مدينة الجزائر عدة نتائج منها:
-التوقيع على معاهدة الاستسلام ودخول الجيش الفرنسي للجزائر وبذلك انتهت فترة الحكم العثماني في الجزائر، وغادر الداي حسين الجزائر يوم 10 من الشهر نفسه إلى نابولي فالإسكندرية حيث توفي بها 1838 .
-عاث الجيش الفرنسي في البلاد فسادا حيث قام الفرنسيين بسلب ونهب ما وجدوه في طريقهم حيث نهبوا الأموال التي كانت بالخزينة والتي قدرت بـ: 55684527 فرنك كما قاموا بزرع الموت والدمار، وقاموا بتخريب المنازل وأنابيب المياه مما أدى إلى انتشار الأمراض الأوبئة .
-حل الجيش الانكشاري الذي كان عدده 3500 وترحيلهم يوم 11 جويلية بشكل يدمي القلوب في ذلة وانكسار، وقد استغل اليهود ذلك للانتقام منهم ومن الجزائريين فنهبوا أموالهم ومنازلهم وأعلنوا الولاء للفرنسيين واستقبلوهم بالرقص والترحيب .
-حصلت فرنسا على المواد الأولية المخونة في الجزائر، وابتلعت ما كان عليها من ديون للجزائر وحملت الغنائم والكنوز والثروات إلى فرنسا لتزين تاج الحرية والإخاء والمساواة .
-إصدار قرار يقضي بتسليم الأراضي ملك الجزائريين للمعمرين وبذلك قاموا بتجريد الجزائريين من أراضيهم، كما قام الجنرال "كلوزيل" بتشجيع وإقناع الفلاحين والتجار الفرنسيين بالقدوم للجزائر والاستيلاء على الأراضي الخصبة وزراعة العنب والبحث عن الذهب في المنـاجم الجزائرية.