نظر إلى هاتفه الجوال ليعرف الساعة، وجدها الثانية عشر و خمس و أربعون دقيقة صباحا، تأفف متضجرا من هذا الأرق المزمن – على ما يبدو- و الذي ألم به مؤخرا فأصبح تحت رحمة المنومات و الأدوية المهدئة رغم تحذيرات صديقه عثمان المتكررة منها و قلقه من أن يدمن عليها، و لكن ما العمل،فعلا ماذا يعمل حيال هذا الأرق العجيب؟ انه لا يستطيع أن ينوم رغما عن أنفه و لا يستطيع أن يصدر أوامر لجهازه العصبي أن يخمد قليلا و لا يمكنه فعل شيء حيال الأمر، كل ما يستطيع فعله هو الرقاد مضجعا على جنبه الأيمن و قراءة المعوذتين و انتظار السيد نوم.</SPAN>
................................................................</SPAN>
نظر مرة أخرى إلى ساعة هاتفه فوجدها الواحدة و عشرة دقائق، ما أبطيء مرور الزمن في هذا الليل الموحش، تذكر بيت الشاعر الذي يذم فيه الحماقة و يصفها بأنها مستعصية على العلاج، و حاول جهده أن يتذكر نص البيت، و لكنه لم ينجح و تمنى في سره لو أضاف الأرق لهذه القائمة المهببة، استعدل في جلسته و ظل مدة </SPAN>دقيقة مشتت الذهن، لا يستجمع شيئا و لا يدري ماذا يفعل أو ماذا كان يود أن يفعل حين قام من رقدته،لعن إبليس و نظر إلى كومة الأدوية الموضوعة في منضدة جوار سريره و المكونة من علبتي حبوب منومة و دواء مهدئ للأعصاب أو يفترض أنه كذلك،تذكر صديقه عثمان،يا ترى ماذا يفعل في هذه الساعة،على الأرجح سيكون ينعم بنوم هادئ، لم يستطع البقاء في السرير بدون حراك فأشعل الضوء و أخذ الجريدة الملقاة على الأرض ليقرأها للمرة الثالثة في ظرف يومين، قلب نظره في عناوين الصحيفة في حركة إلية و من ثم تحول إلى الإخبار المحلية فالصفحات الداخلية فالرياضة فالأخيرة، و التي لفت نظره فيها أنها قد احتلت بالكامل بإعلان لشركة اتصالات،تقدم عرضا جديدا يبدو أنه يتعلق بالمكالمات المخفضة بعد منتصف الليل، قرأ تفاصيل الإعلان بملل و و تذكر أنه مشترك في هذه الشركة، و أنه بإمكانه الاستفادة من هذه الخدمة،فكر في الذين يمكنه الاتصال بهم في هذا الوقت المتأخر من الليل،لكنه احتار ماذا يقول لهم؟ أيقول لهم إني مشتاق إلى سماع صوتكم؟ و هو الذي يتهرب من مكالماتهم اليوم كله؟! انه حقيقة لا يلقي بالا للعلاقات الاجتماعية، و كان يرى أنها مضيعة للوقت و الجهد و المال أحيانا إذا تطلب الأمر دعوة غداء أو ما شابهها من أشكال المجاملات التقليدية،بل حتى هاتفه لم يسلم من نظرته هذه، فكان يغلقه إلا حين يريد أن يجري مكالمة تلفونية فيفتحه و بعد الانتهاء منها يعود فيغلقه مرة أخرى،و هكذا دواليك، و لكن هذا الإعلان لم يضع سدى،فتتساءل إن كان يوجد أناس ساهرون في هذا الوقت غيره، و يعانون ما يعاني منه،و لكنه تذكر ما يكون بين المتصلين في هذه الساعات من أنس و طمأنينة و سعادة هو أبعد ما يكون عنها،و لاح – رغم كل شيء- ثغر ابتسامة شاحبة على وجهه.</SPAN>
.......................................</SPAN>
الوحش يقتل ثائر، و الأرض تنبت ألف سائر، تردد هذا القول في ذهنه كثيرا حتى أوشك أن يحطم رأسه، من أين أتت هذه العبارة،و من هو قائلها؟! أجهد نفسه حتى تذكر أين قرأها،لقد قرأها في تلك الصحيفة اليسارية التي نسيها عثمان في المكتب،غرق في تأملات مليئة بالوحوش و بالثوار، ثم فكر في أن الحياة هي عبارة عن وحوش و ثوار،و الكل يريد أن يقصي الأخر، و الكل لا يريد أن ينتهي من هذا الصراع الأبدي، وحش يقتل ثائر،الأرض تنبت </SPAN>ألف ثائر،ألف وحش يقتلون ألف ثائر، الأرض تنبت ألف ثائر مرة أخرى،كأنهم لم يسمعوا مرة بشيء اسمه التعايش السلمي أو مواثيق السلام، خطرت في باله انه سوف يأتي جيل من الوحوش و الثوار يتوصلون فيه إلى حل يرضي الجميع و تحقن فيه الدماء،و تخيل الوحش و هو يمد يده مصافحا الثائر، لا بد أن الثائر سيكون جيفارا أو شبيها به على الأقل ، بطاقيته المميزة و تصميمه الذي يشع من عينيه، من سيكون والوحش يا ترى، فكر في عدة خيارات بدءا من أم مرفعين و انتهاء ب ميسرة زميله الذي ينافسه على الترقية المحتملة القادمة، تخيل جيفارا يصافح ميسرة و خلفهم لافتة تحمل اسم:حفل توقيع السلام بين الوحوش و الثوار،سيكون بالتأكيد العديد من الحضور من أنصارالطرفين،و لمح بعين الخيال خال ميسرة ذلك الانتهازي الذي (يحفر) لميسرة منذ مجيئه في هذه الوزارة،لمحه و هو يضحك حتى بانت أنيابه،و رأى أيضا مجموعة من الشباب النحيفين الذين يهتفون و يزعقون بشعارات مثالية مطلقة:الحق – الخبز – الحرية – المساواة – العدل ، هكذا ينبغي أن يكون الثوار في مخيلته،و أن استغرب قليلا لوضع الخبز في هذه القائمة من القيم المطلقة،لكنه لم يفكر كثيرا في هذه المسالة لأنه أحس بشيء لذيذ يجذبه بعيدا و بعيدا حيث لا ثوار و لا وحوش،بل الرغبة في الاستسلام الخدر الممتع و الغوص بعيدا في أعماق النوم.</SPAN>
</SPAN>
.................................................</SPAN>