بعيداً عن انتخابات الرئاسة الأمريكية التي ربما تجتذب كل الأسماع والأبصار داخل الولايات المتحدة وخارجها، تدور حالياً في أمريكا رحى معركة أخرى ولكن داخل ساحات القضاء هذه المرة، حيث رفعت وزارة العدل الأمريكية دعوى قضائية على عدد من كبريات شركات التبغ في البلاد تطالبها فيها بدفع تعويضات هي الأكبر من نوعها بالنسبة للدعاوى المدنية في الولايات المتحدة إذ تصل قيمتها إلى نحو 280 مليار دولار. وتقول الشركات المدعى عليها في هذه القضية وهي (فيليب موريس) و(آر. جي. رينولدز)، (براون ويليامسون)، (لوريلارد)، الشركة الأمريكية البريطانية للتبغ إلى جانب مجموعة (ليجيت) إن دفعها هذا المبلغ ربما يؤدي بها إلى الإفلاس.
******
صحيفة (كريستيان ساينس مونيتور) نشرت تقريراً شاملاً حول هذه القضية التي عقدت أولى جلساتها في واشنطن يوم الحادي والعشرين من سبتمبر الماضي، حيث اتهم ممثلو وزارة العدل شركات التبغ الست بتضليل المواطنين الأمريكيين على مدار الخمسين عاماً الأخيرة، وطالبوا القاضي بإلزام تلك الشركات بدفع ذلك المبلغ الضخم كتعويضات عن الأرباح غير المشروعة التي حققتها في الماضي، وذلك بعد أن تم توجيه اتهامات بالاحتيال لها، تلك الاتهامات التي يتم توجيهها عادة لمن تتم محاكمتهم في قضايا متعلقة بالجريمة المنظمة.
وأشار التقرير إلى أن المحاكمة تجري بناء على نص في القانون الأمريكي يعود إلى عام 1970، ويستهدف التصدي للجريمة المنظمة، والحصول على تعويضات مالية للضحايا على المستوى الفيدرالي.
وأوضحت الصحيفة في تقريرها أن مبلغ التعويضات المطلوب يزيد عن ذاك الذي وافقت شركات التبغ في أمريكا على دفعه عام 1998 بمقتضى تسوية تم التوصل إليها آنذاك بينها وبين سلطات 46 ولاية، حيث بلغ إجمالي التعويضات في ذلك الوقت 206 مليار دولار.
مؤامرة 1953
وأشارت إلى أنه في حال صدور حكم لصالح وزارة العدل فإن الأمر لن يقتصر على مجرد قيام شركات التبغ بدفع تعويضات فحسب، وإنما قد يمتد إلى وضع قيود جديدة على أمور ذات صلة بصناعة التبغ مثل كيفية إنتاجه وتسويقه وبيعه. ونقلت (كريستيان ساينس مونيتور) عن (ويليام كورر) المدير التنفيذي لحملة (حماية الأطفال من التبغ) قوله إن صدور أحكام قضائية من المحكمة بشأن التفاصيل الخاصة بصناعة التبغ يعد أمراً بالغ الأهمية لأن ذلك يعني أنه سيتم التعامل مباشرة مع لب المشكلة ذاتها من خلال تناول الآليات التي تقوم من خلالها شركات هذه الصناعة بعملها، مشيراً إلى أن التعامل بنجاح مع هذا الأمر من شأنه إنقاذ أرواح آلاف بل ملايين الأشخاص. ويلفت التقرير الصحفي النظر إلى ما قامت به عدد من الشركات الأمريكية العاملة في هذا المضمار عام 1953 عندما اجتمع مديروها التنفيذيون في أحد فنادق مدينة نيويورك مع ممثلين عن إحدى شركات العلاقات العامة الكبرى في ذلك الوقت، وبحث الاجتماع سبل بلورة إستراتيجية تستهدف إثارة الشكوك حول مصداقية الأدلة التي كانت قد بدأت في أن تتراكم خلال تلك الفترة بشأن وجود علاقة بين التدخين وبين مشكلات صحية خطيرة يصاب بها الإنسان، وكانت حصيلة اللقاء أن أعلنت هذه الشركات أنها ستجري ما سمته (دراسات وبحوث مستقلة) حول هذه المسألة.
تشكيك واعترافات
على الجانب الآخر يشير تقرير (كريستيان ساينس مونيتور) إلى أن الشركات موضع الاتهام في قضيتنا هذه تعتبر أن القضية لا تستند إلى أسس قوية، وتقول إنها غيرت بالفعل ملصقاتها الدعائية، مشيرة في هذا الصدد إلى أن هذه الملصقات باتت توضح بجلاء أن السجائر خطيرة وتقود إلى الإدمان. وفي هذا الصدد يلقي تقرير الصحيفة الأمريكية الضوء على التطورات التي شهدتها السنوات الماضية بعد التوصل إلى تسوية عام 1998، موضحاً أن مواقع هذه الشركات على شبكة الإنترنت تشتمل على وصلات تقود إلى مواقع المنظمات التي توفر معلومات حول كيفية الإقلاع عن التدخين، كما أن تلك الشركات أيضاً سحبت الإعلانات الخاصة بمنتجاتها من المجلات التي تخاطب الشباب، وتوقفت عن توزيع ال(تي شيرتات) والقبعات المجانية على الناس، وكذلك امتنعت عن رعاية بعض الأحداث والمناسبات. هذه التطورات شملت أيضاً بحسب تقرير الصحيفة اعتراف شركات التبغ بأن الدخان المتخلف عن تدخين السجائر والذي يتعرض له المحيطون بالمدخن أو ما يسمى ب(التدخين السلبي) خطير بدوره. وفي هذا الصدد تنقل الصحيفة عن (مايك بفيل) نائب رئيس إدارة الاتصالات المشتركة في مجموعة (التريا) قوله إنه تمت مراعاة كافة التفاصيل التي تم الاتفاق عليها بموجب تسوية عام 1998، والمعروف أن (التريا) تعد المؤسسة الأم لشركة (فيليب موريس)، وتعتبر أيضاً أكبر شركات التبغ في أمريكا.
دعوى غير مسبوقة
من جهة أخرى، يبرز تقرير (كريستيان ساينس مونيتور) العقبات التي واجهتها تلك الدعوى القضائية التي بدأت الجهود الخاصة برفعها قبل خمسة أعوام، والتي يشير إلى أن أمريكا لم تشهد مثيلاً لها منذ انتخاب الرئيس جورج بوش كرئيس للبلاد !. ويوضح التقرير أن الإدارة الأمريكية حاولت في البداية حجب الأموال التي ينبغي تخصيصها لكي تمضي الدعوى قدماً، ولكن ما لبث وزير العدل (جون أشكر وفت) أن تراجع عن هذا الموقف لتتواصل جهود إقامة الدعوى. وينقل التقرير في هذا الصدد عن (وليام شولتز) أحد أعضاء فريق الخبراء القانونيين الذين عملوا منذ عام 1999 على التحضير لرفع هذه القضية قوله إن القرار برفعها كان قراراً جماعياً من قبل المحامين الذين درسوا التفاصيل المتعلقة بها.
تكاليف باهظة
وتستطرد الصحيفة موضحة أن هذه الدعوى القضائية تعد من بين أكثر الدعاوى تكلفة في تاريخ القضاء الأمريكي، إذ بلغت التكاليف التي تكبدتها وزارة العدل الأمريكية حتى الآن بشأن الإجراءات المتعلقة بها نحو 135 مليون دولار، وهو ما يزيد كثيراً عن تكاليف قضية الاحتكار التي كانت مرفوعة ضد شركة ميكروسوفت، والتي أشارت الوزارة إلى أنها وصلت في مرحلة ما إلى تسعة ملايين دولار، فيما قدرت تقارير إخبارية أخرى التكاليف الإجمالية لها بما يتراوح ما بين 30 إلى 60 مليون دولار. وتضيف (كريستيان ساينس مونيتور) أن الجانب الأكبر من تكاليف قضية شركات التبغ يرجع إلى التكلفة المتعلقة بإعداد وثائق القضية ومراجعتها، مشيرة إلى أن السلطات الأمريكية أتاحت للمدعى عليهم حتى هذه اللحظة نحو 80 مليون صفحة من هذه الوثائق. وتوضح أنه على الرغم من أن شركتي (فيليب موريس) و(آر. جي. رينولدز) قدرتا عدد صفحات الوثائق التي قدمتاها للسلطات بنحو 42 مليون صفحة، إلا أن القاضية (جلاديس كيسلر) قررت تغريم (فيليب موريس) 2.75 مليون دولار لأنها لم تقدم بعضاً من الوثائق المطلوبة منها، والتي تمثلت في رسائل بريد إليكتروني تبادلها بعض موظفيها. ويشير (ويليام أولمير) أحد المستشارين المساعدين لمجموعة (التريا) حسبما يورد التقرير إلى أنه يتوقع أن تستغرق مداولات هذه القضية فترة تزيد بمقدار الضعف عن الفترة التي استغرقتها أي من القضايا المماثلة السابقة عليها، قائلا (إن مزيداً من الوقت ومزيداً من الناس (الشهود) يعني المزيد من الأموال).
مناوشات في ساحة القضاء
وتستعرض الصحيفة الأمريكية في تقريرها المناورات القضائية التي شهدت الفترة السابقة على بدء المداولات في هذه الدعوى، مشيرة على سبيل المثال إلى أن القاضية (كيسلر) أوضحت أن أحد العناصر الأساسية في تلك القضية أن السلطات الأمريكية تسعى للحصول على مبلغ التعويض حتى تعوض الأموال التي أنفقتها على علاج الأمراض ذات الصلة بالتبغ. على الجانب الآخر، تلفت الصحيفة النظر إلى ما أعلنته شركات التبغ المدعى عليها من معارضتها لقرار القاضية نفسها بأنه من الممكن للحكومة الأمريكية السعي لحمل هذه الشركات على التخلي قسراً عن جزء من الأرباح السابقة لها. وتعود (كريستيان ساينس مونيتور) لتنقل عن (ويليام أولمير) قوله إن التقديرات الحكومية لهذه الأرباح استندت إلى تقديراتها لإجمالي الإنفاق الشخصي لأي شاب يقل عمره عن واحد وعشرين عاماً ويبلغ معدل استهلاكه من السجائر خمس سجائر يومياً، وهو الإنفاق الذي يصل في مجمله إلى 70 مليار دولار، ويوضح الرجل أن الاستناد إلى هذا المعيار جعل التقدير الحكومي لقيمة الفوائد الاقتصادية التي عادت على شركات التبغ من الحصول على هذه الأموال يبلغ 280 مليار دولار. ومن جانبه رفض متحدث باسم وزارة العدل الأمريكية التعليق على هذه التصريحات، بحكم أن الأمر لا يزال منظوراً أمام القضاء.
التدخين والسرطان
من ناحية أخرى أوضح تقرير (كريستيان ساينس مونيتور) أن مسؤولي الشركات المدعى عليها يؤكدون أنه سيكون من العسير على السلطات الأمريكية إثبات أن كل الأموال التي ربحتها تلك الشركات هو نتيجة للاحتيال الذي تتهمها وزارة العدل بالقيام به، خاصة أنه منذ عام 1966 يتم طبع تحذيرات من خطورة التدخين على كل علب السجائر.
ويقول (بفيل) في هذا الشأن كما تنقل عنه الصحيفة إن (تصرفاتنا في هذا المضمار لا تتسم فقط بأنها قانونية تماماً، وإنما أيضاً يمكن التأكيد على أن أغلبها كان في إطار القواعد المعمول بها طيلة هذه الفترة الزمنية). وعلى الرغم من هذه التأكيدات، إلا أن (كريستيان ساينس مونيتور) تؤكد في تقريرها أنه سيظل على شركات التبغ الدفاع عن بعض الأعمال التي تقوم بها، ومن بينها إثارة الشكوك حول كون تدخين السجائر يعد أحد أ